السبت، 27 أغسطس 2011

عن إستقلال القضاء .. نتحدث

بسم الله الرحمن الرحيم
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
صدق الله العظيم

نتحدث اليوم عن إستقلال القضاء المصرى بإعتباره الضمانة الأقوى لتحقيق الثورة المصرية أهدافها ، فالمتأمل لما جرى خلال الفترة الإنتقالية من بطء وصل لحد التوقف وتباطؤ وصل لحد التواطؤ فى محاكمات رموز النظام السابق
وعلى رأسهم الرئيس المخلوع مبارك وحاشيته التى لم نكن لنراها سوى بمظاهرة الثامن من يوليو وما تلاها من إعتصامات

والمحلل لهذه الواقعة يبين له أن القضاء المصرى يدار ولا يدير بمعنى أنه لو كان القضاء متمتعاً فعلاً بالحد الأدنى للإستقلال لما جلسنا فى الميادين طيلة سبعة أشهر نكابد حر السماء وقيظ الأرض لمشاهدة مبارك فى القفص وأظن هذه الواقعة تحديداً خير دليل على أن القضاء المصرى فى خطر فعلى محدق

وإستقلال القضاء لم ولن يتحقق سوى بترسيخ ثلاث عناصر ذكرها المستشار حسام الغريانى رئيس المجلس الأعلى للقضاء قبل أيام وهى بالترتيب أولأ : أن تكون هناك حكومة تطبق القانون بروح استقلال القضاء وليس بدافع السيطرة عليه
ثانياً : القاضي الذي يتعين عليه أن يكون مؤمنًا باستقلاله ومستعدًا للدفاع عنه دفاع الحر عن عرضه وشرفه.
أما العنصر الثالث يتمثل في أن يترسخ لدى الشعب إيمانه بأنه لا حريةَ له ولا حقوقَ إلا في ظلِّ قضاءٍ مستقل، وأن يدافع عن استقلال القضاء ممثلاً في مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وغيرها.
وكما هو معلوم للكثيرين أن هناك فى مصر وفى الأدبيات السياسية العامة ثلاث سلطات 

وفى ظل غياب السلطة التشريعية ممثلة فى جناحيها مجلس الشعب ومجلس الشورى فقد إنحسرت السلطات فى إثتنين بعد الثورة وبعد حل المجالس النيابية فى القرار الثورى الوحيد لسلطة الحكم الإنتقالية

وبعد أن كان من المفترض تولى السلطة القضائية الحكم "ممثلة فى رئيس المحكمة الدستورية العليا" بموجب نصوص دستور 1971 الذى كان يحكمنا آنذاك . تعدت السلطة التنفيذية دورها وقفزت على السلطة بموجب تكليف من رئيس مخلوع أو متنحى فى أفضل الظروف ويثار هنا تساؤل مشروع عن كيفية قيام رئيس متخلى عن السلطة بإتخاذ قرار ملزم بتكليف أحد المؤسسات بتولى مسئولية الحكم ؟؟ !!! وبدوره يحيلنا هذا التساؤل لتساؤل أكثر إلحاحاً .. إذ كيف يرى المجلس العسكرى مسوغاً لحكمه البلاد سوى هذا التكليف الصادر من مبارك المخلوع

وهكذا بعد أن أسقطت الثورة دستور 1971 تعدت السلطة التنفيذية مرة أخرى محاولة إعادة الدستور الساقط للحياة مرة بتعديلات قاصرة على بعض مواده قسمت القوى السياسية لفسطاطين متصارعين ، ثم أطلقت السلطة التنفيذية رصاصة الرحمة على الجميع بإسقاط نتيجة الإستفتاء على التعديلات الدستورية وفاجئتنا بإعلان دستورى تضمن مواد أخرى خلاف التى إستفتى عليها أكثر من 14 مليون مصرى بل وكان ضمنها مواد تغيرت صيغتها بعد الموافقة عليها ممن صوتوا بنعم للتعديلات وإرتأوا صلاحيتها للمرحلة

وهكذا بعد أن إستولى العسكر على السلطة بقرار وإجراءات متخبطة يغلب عليها القرارات الفردية دون النظر لأى سلطات أو قوى أخرى ذات تأثير

فتحت المحاكم العسكرية أبوابها للجميع ففوجئنا قبل أيام بإحصائية صادمة أن عدد المحاكمين أمام محاكم عسكرية بلغ 12000 مصرى خلال ستة أشهر بمعدل 2000 فرد شهرياً وبمتوسط 66 فرد يومياً بمعدل 3 حالات كل ساعة فى إنتهاك صارخ وغير مسئول لسلطات القضاء المصرى وإسقاط كامل لكل حقوق المحاكمين فى تواجد محامٍ معهم إضافة إلى ما تسلبه المحاكم العسكرية من المتهمين فيها من حق إستئناف ونقض الأحكام


ومن هنا نشأت فكرة لمجموعة مخلصة من الشباب المصرى لمحاولة منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية لا يصح ولا يستقيم أن يحاكموا أمامها فى حين أن الفاسدين والمفسدين من النظام السابق يتمتعون بكل حقوقهم فى المحاكمات أمام محاكم مدنية ويعانون رغد العيش أثناء حبسهم إحتياطياً وفى رأيى فهذا جهد مشكور لكنه بمعزل عن المشكلة الحقيقية التى لو حلت ما واجهنا ما نواجهه الأن .. تلك المشكلة هى عدم إستقلال القضاء المصرى

يكفى أن نسوق لكم بعض الأمثلة للتدليل على أن القضاء المصرى منتهك ولا يستطيع العمل كمؤسسة كاملة بشكل مستقل فى ظل سيف السلطة التنفيذية المشهر دوماً أمام أعين القضاة المصريين الذين لا أملك أن أشكك في نزاهتهم كأشخاص لكن من حقى التشكيك فى نزاهة المنظومة كاملة


ومنظومة القضاء المصرى تتمثل فى ثلاث مراحل أساسية



و أول وجه لإنتهاك سلطات التحقيق فى الوقائع وسؤال المتهمين نجده فى السماح بقبول تعيين ضباط شرطة فى النيابة العامة كوكلاء للنائب العام بعد دراستهم للقانون  وفى رأيى أن هذا الإجراء هو أول إجراء يجب التصدى له لما يمثله من خطورة تبين فى أن هناك من دارسى القانون من هم أحق من ضباط الشرطة الذين يكون أغلب عملهم فى تحقيقات النيابة هو تفريغ القضايا من مضامينها خاصةً إذا كان المتهم فى القضية ضابط شرطة ممن زاملوه فى دراستهم وأماكن عملهم قبل إلتحاقهم بالنيابة العامة وهناك من الأمثلة ما لا يتسع المجال لذكره

كما أن الوجه الأخر يتمثل فى أن بعض وكلاء النيابة ينتمون لأسر معظم أفرادها ينتمون للشرطة وبالتالى لا نضمن أن يكون تحقيقهم بالكيفية اللازمة لتحقق العدل والعدالة فى مراحلها التمهيدية قبل أن تصل لقاعات المحاكم

وفى رأيى أنه لتلافى هذه الثغرات لابد من الإلتفات لذلك بإقرار أمرين :-

أولاً : إلغاء قبول ضباط الشرطة أو من سبق لهم العمل فى جهاز الشرطة للعمل كوكلاء للنائب العام
ثانياً : التحقق من إستقلال المتقدمين من دارسى القانون للإلتحاق بوظائف النيابة العامة والتيقن من عدم إنتمائهم لأسر تنتمى وتدين بولاءها للشرطة

ونأتى بعد ذلك لقاعات المحاكم والقضاء الجالس على منصات الحكم على إمتداد مصر لنجد أفدح صور التداخل بين السلطة القضائية والتنفيذية

وتتضح أول صور ذلك التداخل فى ندب بعض القضاة للعمل كمستشارين للوزراء فى السلطة التنفيذية مما ينعكس على باقى القضاة الجالسين والعاملين من تحين الفرصة لتحسين دخولهم ومن هنا يبدأون فى تحسين علاقاتهم مع السلطة التنفيذية ومن شروط تحسين العلاقة الإستجابة لطلبات من يملك المنح والمنع فى نظرهم وهو من يملك قرار ندبهم ولهذا ربما تتأثر أحكام القضاة فى بعض القضايا بمدى إرتباطهم وتطلعهم لشغل وظيفة مستشار لأحد الوزراء

ولهذا ينبغى إتخاذ إجراءين لا ثالث لهما :
 أولاً : إلغاء ندب وإعارة القضاة لوظائف إستشارية فى الوزارات والمصالح الحكومية
ثانياً : تحسين الأوضاع المادية للقضاة المصريين على كافة مستويات التقاضى


ثم تتضح ثانى صور ذلك التداخل فى تبعية المجلس الأعلى للقضاء "الذى يمثل الجمعية العمومية لقضاة مصر" والذى لا يُتصور أن يكون تابعاً لأى جهة اللهم إلا القضاة أنفسهم لكن مصر بها من المضحكات ما يصل بالإنسان للبكا كما قال الشاعر " وكم ذا بمصر من المضحكات .. ولكنه ضحكٌ كالبكا" ولهذا نجد أن المجلس الأعلى للقضاء تابع – وأعتذر عن كلمة تابع تلك لكنها الحقيقة – تابع لوزير العدل ويرأس إجتماعاته ويعين رئيسه وتموله وزارة العدل ولهذا يجب :
أولاً : إلغاء تبعية مجلس القضاء الأعلى لوزارة العدل و أن يكون رئيسه عنصراً منتخباً من القضاة أنفسهم
ثانيا ً: أن يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بميزانية مستقلة عن ميزانية وزارة العدل
ثالثاً : أن يكون للمجلس رأي معتبر في تعيين المناصب القضائية المختلفة مثل النائب العام ورئيس المجلس نفسه

وثالث الصور هو تبعية جهاز التفتيش القضائى لوزارة العدل الممثلة للسلطة التنفيذية التى بإمكانها فى ظل الوضع القائم إتهام هذا القاضى بالتقصير وذلك بالإجادة ولعل أبرز دليل على عدم إستقلال هذا الجهاز واقعة التحقيق مع المستشارين أحمد مكى وهشام البسطويسى حين إعترضا على قيام بعض القضاة المشرفين على إنتخابات البرلمان عام 2005 بالإسهام فى تزوير تلك الإنتخابات فما كان جزاءهما إلا الإحالة للتحقيق ولعل من عجائب الأقدار أن نجد الأول هو المشرف على تعديلات قانون السلطة القضائية الجارى إعدادها حالياً ، بينما يعتزم الثانى الترشح لمنصب رئيس الجمهورية فى الإنتخابات القادمة ولهذا يجب
نقل تبعية التفتيش القضائي للمجلس الأعلى للقضاء لضمان تعبيره عن القضاة أنفسهم لا عن وزير عينه رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية

هذا وقد لخص تقرير الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان معوقات استقلال القضاء فى
 تدخل السلطة التنفيذية في شئون القضاء عن طريق التعيين في المناصب القضائية العليا، والتحكم في الندب والإعارة، وعدم تنفيذ الأحكام القضائية، وحرمان بعض المتقاضين من قاضيهم الطبيعي عن طريق اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية، وحرمان جزء كبير من المجتمع من فرصة اختيارهم كقضاة، والمساس بالحقوق الجماعية والفردية للقضاة،
وتركز السلطة في أيدي رؤساء المحاكم.

إن معركة إستقلال القضاء هى معركة الثورة حالياً حيث كانت تلك المعوقات بسبب وجود سلطة تنفيذية فاسدة تخشى من وجود سلطة قضائية مستقلة تحاسبها، ووجود ممارسات سيئة لبعض القضاة نمت وترعرت في مناخ عام ملوث خيم علي مصر لسنوات طويلة.
وبالتالى فإنه لضمان زوال تلك السلطة التنفيذية الفاسدة وما تبقى من ذيولها لابد من دعم وجود سلطة قضائية مستقلة تتحمل مسئولياتها كاملة أمام الله ثم المجتمع المصرى


معاً من أجل قضاء مستقل